الجمعة، 9 نوفمبر 2012

خفايا وخبايا مفاوضات اتفاقية مياه النيل لعام 1959 (1 – 10)


د. سلمان محمد أحمد سلمان

1يُصادف اليوم 8 نوفمبر عام 2012 الذكرى الثالثة والخمسين لاتفاقية مياه النيل لعام 1959. ففي ذلك اليوم وقّع السيد زكريا محي الدين رئيس الوفد المصري، والفريق محمد طلعت فريد رئيس الوفد السوداني في مبنى وزارة الخارجية المصرية في القاهرة على ثلاث اتفاقياتٍ هى: اتفاقية مياه النيل؛ الاتفاق المالي والتجاري؛ واتفاقية المسائل الجمركية. وقد شهد حفل التوقيع عددٌ كبيرٌ من ممثلي السلك الدبلوماسي وكبار رجالات الدولة في مصر. وتمّت تغطيةٌ إعلامية محلية وإقليمية ودولية ضخمة لهذا الحدث التاريخي.

ننتهز هذه السانحة لنلقي الضوء في هذه السلسلة من المقالات العشر على خفايا وخبايا وتعقيدات مفاوضات اتفاقية مياه النيل لعام 1959. سنوضّح أن التفاوض لم يبدأ، كما يعتقد البعض، بالوفد الذي قاده الفريق محمد طلعت فريد إلى القاهرة في أكتوبر عام 1959، وإنما يعود إلى عام 1954 إثر تكوين أول حكومة وطنية في السودان، وأنه قد دارت عدّة جولات تفاوضٍ خلال تلك الفترة انتهت بالفشل، ولكنها

شكّلت الإطار التفاوضي السوداني الذي ورثته حكومة الفريق ابراهيم عبود.

ستغور هذه المقالات في عمق هذه المفاوضات وستكشف التنازلات التدريجية التي قدّمتها وفود التفاوض السودانية المختلفة. ستوضّح المقالات أيضاً أن الوفد السوداني المفاوض عام 1959 لم يكن وفداً عسكرياً بحتاً كما يحاول البعض تصويره، بل شمل عدداً من وكلاء الوزارات المدنيين، وعدداً من الفنيين. ستتعرّض المقالات بعد ذلك بالشرح والتحليل لبنود الاتفاقية وتوضّح كيف أن كفّة المفاوضات والاتفاقية رجحتا لصالح مصر بصورةٍ كبيرة.
2
تشكّلت الحكومة الوطنية الأولى في السودان في شهر يناير عام 1954 برئاسة السيد اسماعيل الأزهري إثر فوز الحزب الوطني الاتحادي بالأغلبية في البرلمان في الانتخابات التي جرت في نوفمبر عام 1953. وقد عهد السيد الأزهري بمسؤوليات المعارف والزراعة والري إلى السيد ميرغني حمزة. كان ملف التوسّع في مشروع الجزيرة ببناء خزان الروصيرص لريّ امتداد المناقل من الملفات العاجلة للحكومة الجديدة وللسيد ميرغني حمزة. فالطفرة الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التى حقّقها مشروع الجزيرة خلال الحقبة الاستعمارية في كل أنحاء السودان لابد أن تتواصل في فترة الحكم الوطني. كما أن احتياجات البلاد من النقد الأجنبي والتى يأتى مجملها من قطن مشروع الجزيرة سترتفع لمقابلة متطلبات التنمية التى ستتزايد بعد الاستقلال.
ولكنّ التوسّع في مشروع الجزيرة كان قد توقّف تماماً لعدم وجود مياهٍ جديدةٍ للري بسبب القيود الصارمة التى وضعتها اتفاقية مياه النيل لعام 1929 على كمية ومواقيت استعمال المياه في السودان. ففي ذلك العام (1954) وصلت كمية المياه التى كان السودان يستعملها إلى حدّها الأقصى المسموح به بموجب الاتفاقية وهو أربعة مليار متر مكعّب، مقابل 48 مليار متر مكعب لمصر، ووصلت الطاقة التخزينية لخزان سنار إلى أقصاها. وقد كانت دراسة خزان الروصيرص وامتداد المناقل قد اكتملت في بداية الخمسينيات بواسطة الشركة الهندسية الاسكوتلندية الاسكندر غيبز.
عليه فقد قام السيد ميرغني حمزة وزير الزراعة والري في الحكومة الجديدة فور تسلّمه الأعباء الوزارية بالاتصال بالسلطات المصرية لعرض دراسة خزان الروصيرص والحصول على موافقتها على بنائه بغرض البحث عن التمويل للخزان. ولكن تأخرت تحضيرات السودان، وبالتالي المفاوضات مع مصر، بسبب حوادث مارس الدامية وتأجيل افتتاح البرلمان السوداني، وتداعيات تلك الحوادث الأمنية والسياسية والقانونية. بعد هدوء الأحوال في السودان اتفق الطرفان على اللقاء في شهر أغسطس عام 1954، ولكن اللقاء تاجّل بسبب الفيضانات التى سببها النيل الأزرق ونهر عطبرة في السودان، ونهر النيل في مصر ذلك الشهر.
3
التقى مندوبو البلدين في بداية سبتمبر عام 1954 بالخرطوم حيث بدأت الجولة الأولى للمرحلة الأولى لمفاوضاتٍ وضح فيما بعد أنها ستطول. قدّم الوفد السوداني برئاسة السيد ميرغني حمزة في تلك الجولة دراسته وطلبه لبناء خزان الروصيرص. غير أن الوفد المصري برئاسة الدكتور محمد أمين فاجأ الوفد السوداني بتقديمه مجموعة من المشاريع المصرية المقترحة ومن بينها السد العالي. ولكنّ مستشار الري السوداني وعضو الوفد المفاوض السيد همفري موريس (الانجليزي الجنسية والذي واصل مهامه مستشاراً للري بناءأً على طلب الحكومة السودانية الجديدة) أصرّ على أن الغرض من الاجتماع هو مناقشة خزان الروصيرص فقط، وأن السودان ليس لديه أي علمٍ أو معلوماتٍ عن السد العالي، وعليه فالسودان يرفض الربط بين السدين ويرى أن تتركّز المفاوضات على خزان الروصيرص وحده، وهذا ما رفضه الوفد المصري. وهكذا انفضّ الاجتماع الأول في التاسع من سبتمبر عام 1954 دون الاتفاق على شيئ، وتحت سحب خلافاتٍ كثيفة. ويبدو أن الوفد المصري كان يرتكز على سابقة بناء خزان جبل أولياء لمصلحة مصر مقابل خزان سنار لمصلحة السودان، وعليه فلم يجد الوفد المصري حرجاً من الربط بين خزان الروصيرص والسد العالي.
زار السيد ميرغني حمزة القاهرة في أكتوبر عام 1954 لمواصلة التفاوض، ونتج عن تلك الزيارة بدء جولةٍ ثانيةٍ من المفاوضات في الخرطوم في أول نوفمبر عام 1954 أكّد فيها الوفد السوداني رفضه لمبدأ الربط بين السدّين وإصراره على التركيز على مناقشة مقترح خزان الروصيرص. ورغم أن السيد ميرغني حمزة كان ميالاً إلى إبداء بعض المرونة فيما يتعلّق بالسد العالي، إلاّ أن المستشار همفري موريس أصرّ على عدم الربط بين السدّين وأوضح مضار السد العالي للسودان من إغراق لمنطقة حلفا ومن كمية المياه العالية التي ستتبخر. وقد قبل السيد ميرغني حمزة نصيحته بعد تردّد.
أٌثيرت في ذلك الاجتماع أيضاً مسألة إعادة توزيع مياه النيل بين الدولتين حتي يتسنى للسودان التوسّع في ري مشروع الجزيرة، ولكنّ الوفد المصري أصرّ على أن أى توزيعٍ لمياه النيل لا يمكن أن يتم قبل بناء السد العالي. وهكذا انتهت تلك الجولة الثانية من المفاوضات بالفشل كما انتهت الجولة الأولى.
4
دارت المفاوضات خلال هذه الحقبة في جوٍ سياسيٍ ودستوريٍ غريبين. فالسودان رغم أنه كان تحت الحكم الذاتي، إلاّ انه كان ما يزال قانونياً ودستورياً تحت الحكم الثنائى الانجليزى المصري. إذن فالحكومة السودانية تتفاوض مع أحد حكام السودان، يساعدها في ذلك الطرف الحاكم الآخر. يزداد الأمر غرابةً عندما يعلن الحاكم العام للسودان، الذى كان وسيظل خلال فترة الحكم الذاتي بريطانياً، أن الاتفاقيات الدولية من صميم اختصاصاته كرأسٍ للدولة، وأن أية اتفاقية يتم التوصل لها ستحتاج إلى موافقته بوصفه رأساً للدولة.
من الناحية الأخرى فقد فاز الحزب الوطني الاتحادي الذى كان حتى ذلك الوقت يرفع شعار الوحدة مع مصر في انتخابات نوفمبر عام 1953، وشكّل الحكومة لوحده. وهاهو الحزب الذى يدعو للوحدة مع مصر يفشل في أول جولات تفاوضه مع الدولة التى ينوي الوحدة معها. وفي ذات الوقت تتفاوض مصر مع حكومة ذلك الحزب ليس كحكومة صديقةٍ تحاول أن تكسب المزيد من ودها لإغرائها بخيار الوحدة وجعل الوحدة خياراً جاذبا لها، ولكن كحكومة دولةٍ منافسةٍ لها في استعمالات مياه النيل.
عليه فقد كانت مصر تضغط سياسياً في اتجاه وحدة السودان ومصر تحت مظلة وحدة وادي النيل. لكن مائياً كانت نظرة مصر قاصرةً على مصالحها التي وضح تضاربها مع مصالح السودان.
بالإضافة لذلك فقد كانت حكومة الحزب الوطني الاتحادي تعاني من خلافاتٍ داخلية حادة خاصةً بين السيد اسماعيل الأزهري والسيد ميرغني حمزة بسبب طموحات الأخير وتوقعاته أن يُعيّن نائبا لرئيس الوزراء (أو حتى أن يخلف الأزهري رئيساً للوزارة). وقد تطوّر هذا الخلاف ووصل مرحلةً عزل فيها السيد اسماعيل الأزهري السيد ميرغني حمزة من الوزارات الثلاث التى كان وزيراً لها في 23 ديسمبر عام 1954، بعد أقل من عامٍ من تعيينه لهذه المناصب. وعزل السيد الأزهري معه السيد خلف الله خالد وزير الدفاع، والسيد أحمد جلي وزير الدولة. وقد أوضح ذلك القرار حدّة الخلافات داخل حكومة الأزهري. ولا بدّ بالضرورة من انعكاس تلك الخلافات على موقف السودان التفاوضي مع مصر.
5
تم تعيين السيد خضر حمد وزيراً للري في 25 ديسمبر عام 1954 خلفاً للسيد ميرغني حمزة، وتأسّست بذلك وزارة الري كوازرةٍ منفصلة وقائمة بذاتها لأول مرةٍ في تاريخ السودان. وقد كان السيد خضر حمد وقتها السكرتير العام للحزب الوطني الاتحادي، وقد عُيّن وزير دولة في حكومة السيد اسماعيل الأزهري في مايو عام 1954 قبل أن يستلم أعباء وزارة الري في ديسمبر عام 1954. وقد كانت المهمة الأساسية التى أُسندت إليه هى الإسراع في عملية المفاوضات مع مصر بشأن خزان الروصيرص والتوسّع في مشروع الجزيرة.
زار وزير الري السيد خضر حمد القاهرة في الأسبوع الأخير من شهر مارس عام 1955 للتمهيد لجولةٍ ثالثةٍ من المفاوضات في أبريل من ذاك العام. لكن الزيارة طغت عليها قصة ما سُمّي "بالمنشورات"، والتى أٌتّهمت فيها السلطات المصرية السيد خضر حمد بحيازته ومحاولة طبع وتوزيع منشوراتٍ معاديةٍ للثورة في مصر. وكان بالضرورة أن تؤثّر تلك الحادثة الغريبة على عملية التفاوض وعلى مصداقية قيادة السيد خضر حمد للوفد السوداني.
6
كانت الأحداث السياسية في مصر تتحرك بسرعةٍ مذهلة في تلك الفترة، فقد نجح عبد الناصر أخيراً في إقصاء محمد نجيب من كل مناصبه ووضعه تحت الإقامة الجبرية. استاء السودانيون وحزنوا كثيراً لهذا الحدث بسبب العلاقة الوطيدة التى كانت تربط محمد نجيب بالسودان، وكان هذا من ضمن الأسباب الرئيسية التى جعلت فكرة الوحد ة مع مصر تذوب تدريجياً في أذهان الكثير من السياسيين والمتعلمين السودانيين والشعب السوداني ككل. وكتعبيرٍ عميق لهذه المشاعر كتب الشاعر السوداني الكبير السيد أحمد محمد صالح قصيدته المشهورة "إلى نجيب في عليائه" والتى تداولها سياسيو ومتعلمو السودان بشغفٍ ونهمٍ شديدين. تقول الأبيات الأولى من القصيدة:
ما كنت غداراً ولا خوانا كلا ولم تك يا نجيب جبانا
يا صاحب القلب الكبير تحيةً من أمـةٍ أوليتهـا الإحسانا
عرفتك منذ صباك حراً وافيا فوفت إليك و آمنت إيمانا
أصبحت بعد القيد أبلغ حجة وأعز منزلة وأرفـع شـأنا
إن طوقوك فطالمـا طوقتهم منناً كبارا في الزمان حسانا
أو قيدوك فقد فككت قيودهم ووهبتهم حريةً وأمــــانا
لو أنصفوا جعلوك في آماقهم وتخيروك لمجـــدهم عنوانا
تقع القصيدة في ثلاثةٍ وثلاثين بيتاً، ويختمها الشاعر بالبيتين الآتيين:
ما حطموك وإنما قد حطموا أمل البلاد وصوتها الرنانـا
هذا جزاء المحسنين وقلمــا تلقــى على إحسانك الإحسانــا
حكى لي الأخ الصديق السفير صلاح أحمد محمد صالح (مدّ الله في أيامه وأدام له الصحة والعافية) عن عمق علاقة الصداقة بين السيد والده والسيد محمد نجيب منذ أيام دراستهما في كلية غردون، وعن كيف استمرت العلاقة بعد رجوع السيد محمد نجيب إلى مصر وعمله في المؤسسة العسكرية، ثم دخوله عالم السياسة، وحتى بعد إقصائه من جميع مناصبه. وأخبرنى أن والده استطاع أن يحصل على موافقة السلطات المصرية لزيارة السيد محمد نجيب بصورةٍ منتظمة خلال إقامته الجبرية، وعلى زيارة السيد محمد نجيب له في منزل الأخ صلاح عندما كان دبلوماسياً بالسفارة السودانية بالقاهرة. أوضح لي السفير صلاح أن علاقة والده القوية بمحمد نجيب لم تؤثّر على علاقة والده بالرئيس عبد الناصر والتى توطدّت عندما صار السيد أحمد محمد صالح عضواً بمجلس السيادة خلال فترة الحكم المدني الأولى في السودان من يناير عام 1956 حتى 16 نوفمبر عام 1958، وقد كتب قصيدته التى أشاد فيها بمواقف الرئيس عبد الناصر إبان العدوان الثلاثي على مصر.
7
أحضر السيد الوزير خضر حمد صورةً من القصيدة معه إلى القاهرة عند زيارته في نهاية مارس عام 1955، حسب قوله "بغرض أن تكتب بخط جميل وأعمل لها لوحة أكلشيه" ولأنّ عدداً كبيراً من أصدقائه طلبوا منه صورةً من القصيدة. أعطى السيد خضر حمد (الذي كان يقيم في قصر الطاهرة ضيفاً على الحكومة المصرية !) القصيدة لشخصٍ لا يبدو أنه كان يعرفه ليعمل الأكلشيه والصور. وعند ذهابه لاستلامها قابله رجال الأمن المصري هناك واستجوبوه لفترةٍ من الوقت عن القصيدة التى اعتبروها إساءةً للثورة المصرية ورجالها، وسألوه عما كان ينوي أن يفعله بصور القصيدة. وبعد ساعاتٍ من الاستجواب له ولمن كان يساعده في تلك المهمّة تمّ السماح له بالسفر للسودان في ذلك اليوم كما كان ينوي.
8
رجع السيد خضر حمد إلى الخرطوم من القاهرة يوم 31 مارس عام 1955 وأطلع السيد رئيس الوزراء على ما حدث في القاهرة مع رجال الأمن المصري حول قصيدة "إلى نجيب في عليائه". لم يعترض السيد رئيس الوزراء على رجوعه للقاهرة مُترئساً لوفد المفاوضات السوداني لمياه النيل. وعليه فقد عاد السيد خضر حمد إلى القاهرة يوم 4 أبريل عام 1955 كرئيسٍ لوفد المفاوضات. وقد شمل الوفد عدداً من مهندسي الري بالإضافة إلى المستشار همفري موريس.
من المؤكّد أن حادثة قصيدة "إلى نجيب في عليائه" والتي أطلقت عليها السلطات المصرية قصة "المنشورات" لابدّ أن تُلقى بظلالها على جولة المفاوضات الثالثة، كما سنناقش في المقال القادم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق