الأربعاء، 7 نوفمبر 2012

ماذا عن اجتماع نيروبي لدول اتفاقية عنتبي؟ تعقيب على د. المفتي



د. سلمان محمد أحمد سلمان

كنتُ قد نشرتُ مقالاً مطولاً يوم الأحد 21 أكتوبر عام 2012 بعددٍ من المواقع الالكترونية وصحف الخرطوم بعنوان "لماذا يتعيّن على السودان الانضمام إلى اتفاقية عنتبي لحوض النيل؟" وقد عدّدتُ في ذلك المقال عشرة أسباب أوضحتُ أنه يتعين على السودان بمقتضاها الانضمام إلى اتفاقية عنتبي. وقد كنتُ اتوقع أن يقوم المستشار القانوني للوفد الحكومي المفاوض د. أحمد المفتي بالرد على ذلك المقال وتوضيح الأسباب التي يرى أنه يتحتّم بموجبها عدم انضمام السودان للاتفاقية. فقد أقام الدنيا ولم يقعدها بعد متحدثاً عما أسماه ضياع حقوق السودان جراء الانضمام لاتفاقية عنتبي.

لكن د. المفتي بحث في أدراجه مثل تاجرٍ مفلسٍ وخرج علينا يوم الأحد 4 نوفمبر عام 2012 في مقالٍ نشره في صحيفة سودانايل تحت عنوان " دول اتفاقية عنتبي تتجاوب مع طرح حكومة السودان وتجهض دعوة د. سلمان." وذكر أنه قدّم خلال اجتماع شرم الشيخ عام 2010 مبادرةً لحل الخلافات بين دول المنبع من جهة وبين السودان ومصر من جهة أخرى.

لست أدري لماذا تذكّر د. المفتي الآن فقط ما يدّعي أنه حدث في اجتماع شرم الشيخ الذي انعقد في أبريل عام 2010، أي قبل أكثر من عامين ونصف؟ بالإضافة إلى ذلك لم يقل لنا د. المفتي ماذا حدث لمبادرته تلك خلال العامين ونصف الماضيين، ولم يشرح للقارئ لماذا وقّعت دول المنبع بعد شهرٍ واحدٍ فقط من مبادرته على اتفاقية عنتبي؟ ترى هل كان ذلك التوقيع هو رد تلك الدول على تلك المبادرة؟

لقد مرّت مياهٌ كثيرة تحت جسور وسدود نهر النيل منذ اجتماع شرم الشيخ عام 2010، كان أهمها اجتماع نيروبي الذي عُقد في يناير عام 2012 (أي بعد قرابة العامين من اجتماع شرم الشيخ). وقد اتخذ اجتماع نيروبي أخطر القرارات في تاريخ حوض النيل، نسخت ما قبلها من تفاهماتٍ، ومبادراتٍ وهميةٍ وحقيقية.

لقد ظلّ الوفد السوداني المفاوض يتفادى الحديث عن اجتماع نيروبي مثل تفاديه الحديث عن فشل السودان في استعمال حقوقه بموجب اتفاقية مياه النيل لعام 1959 (يستعمل السودان سنوياً 12 مليار متر مكعب فقط كما ذكر الوزير السابق كمال علي نفسه من جملة حقوقه البالغة 18,5 مليار).

سنتعرّض في هذا المقال بايجازٍ لاجتماع نيروبي وما تمّ اتخاذه من قرارات خلال ذاك الاجتماع، وسوف نتطرّق بعد ذلك إلى بعض النقاط التي أثارها مقال د. المفتي ونقوم بالردّ عليها.

2

كان من المقرر أن يلتئم في نيروبي عاصمة كينيا يوم الجمعة 27 يناير عام 2012 الاجتماع الاستثنائي لوزراء مياه دول حوض النيل الذي طلبت مصر والسودان عقده مراراً. وبالفعل فقد ابتدأ الوزراء في الوصول إلى نيروبي يوم الخميس. ولكن فجأةً وبلا مقدماتٍ أعلنت كلٌ من مصر والسودان أن وزيري المياه في الدولتين لن يحضرا هذا الاجتماع.

على إثر قرار مصر والسودان مقاطعة اجتماع نيروبي قرر وزراء مياه الدول الست التي وصلت نيروبي (بالإضافة إلى مندوب جمهورية دولة الكونغو الديمقراطية) المُضِيَّ قُدماً في الاجتماع ولكن تحت مظلةٍ أخرى. فقد قرر الوزراء الاجتماع تحت غطاء مجلس وزراء المياه لدول نيل البحيرات الاستوائية، بدلاً من الاجتماع الاستثنائي لوزراء مياه دول حوض النيل. وهذا المجلس هو أحد مؤسسات مبادرة حوض النيل ويضم ستَّ دولٍ هي تنزانيا ويوغندا ورواندا وكينيا وبوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية. وقد انضمت اثيوبيا إلى هذه المجموعة كمراقبٍ لأنها ليست طرفاً في نيل البحيرات الاستوائية.

كان ثاني القرارات التي اتخذها هذا الاجتماع هو رفع تمثيل اثيوبيا من مراقبٍ إلى عضوٍ كامل في برامج دول نيل البحيرات الاستوائية، وبالتالي في المجلس. وهذا القرار قُصِد منه منح اثيوبيا الحق التام في المشاركة في اجتماع نيروبي، وكذلك المشاركة في اتخاذ كافة القرارات فيه. وبهذا القرار تكون دول نيل البحيرات الاستوائية الخمس التي وقّعت على اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل (اتفاقية عنتبي) قد وطدّت مكانتها بضمّها اثيوبيا التي هي أكبر مصدرٍ لمياه لنهر النيل (حوالي 86% من مجمل مياه النيل) إلى برامج ومجلس دول نيل البحيرات الاستوائية. وهكذا أنشأت هذه الدول الست تحالفاً متكاملاً ومؤسّسياً تجاه تحالف مصر والسودان الذي برز إلى الوجود منذ أن وقّع البلدان على اتفاقية مياه النيل في 8 نوفمبر عام 1959.

3

بعد قرار الاجتماع رفع تمثيل اثيوبيا من مراقبٍ إلى عضوٍ كامل في برامج ومجلس نيل البحيرات الاستوائية عقد الوزراء اجتماعاً تشاورياً حول اتفاقية عنتبي التي وقّعت عليها كل الدول المجتمعة عدا جمهورية الكونغو الديمقراطية. وتناول الاجتماع التشاوري أيضاً مقاطعة مصر والسودان لاجتماع نيروبي، وأصدر الوزراء في ختام الاجتماع بيان نيروبي.

وقد تضمّن بيان نيروبي قراراتٍ هامة لا بُدّ من الوقوف عندها ومناقشتها لإنها في رأيي من أكثر القرارات خطورةً على مجمل العلاقات بين دول حوض النيل منذ قيام مبادرة حوض النيل عام 1999. وأهم هذه القرارات التي تضمّنها البيان هي:

أولاً: قرّر الوزراء المجتمعون المضي قُدماً في التصديق على اتفاقية عنتبي حتى يتسنى لها أن تدخل حيّز التنفيذ ويتم بموجبها إنشاء مفوضية حوض النيل، وأن يمدوا بعضهم البعض بالمعلومات عن التقدّم في عملية التصديق على الاتفاقية. هذا القرار يعني ببساطة أن هذه الدول قد قررت إلغاء القرار السابق بتأجيل التصديق على الاتفاقية لإعطاء مصر بعض الوقت بعد ثورة 25 يناير عام 2011. وكان قرار التأجيل قد اتُخِذ بعد زيارة الوفد الشعبي المصري لاثيوبيا في أبريل عام 2011، والتي تلتها زيارة السيد عصام شرف رئيس الوزراء المصري السابق لاثيوبيا في مايو من نفس العام. وإذا صادقت الدول الست على الاتفاقية فإن الاتفاقية ستدخل حيز التنفيذ بعد ذلك بدون مصر والسودان. وهذا بدوره سوف يخلق وضعاً قانونياً معقّداً ويُعمّق النزاعات وحالة التمحور داخل دول حوض النيل.

ثانياً: قرر الوزراء المجتمعون مواصلة النقاش مع الدول الثلاث التي لم تُوقّع على الاتفاقية (مصر والسودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية) بغرض إقناعها بالانضمام إلى الاتفاقية، على أن يكتمل النقاش مع هذه الدول في مدة الستين يوماً القادمة. هذا القرار لا يُمكن قراءته إلّا على أنه إعطاء هذه الدول الثلاث فرصةً أخيرة لتنضم إلى الاتفاقية قبل أن تدخل حيّز التنفيذ بعد مصادقة الدول الست التي وقّعت عليها. كما يجب ملاحظة أن القرار يتحدّث عن النقاش حول الانضمام للاتفاقية وليس فتح باب التفاوض في نقاط الخلاف حولها.

ثالثا: عبّر الوزراء المجتمعون عن إحباطهم على التردد الذي أبدته مصر والسودان فيما يخص الاجتماع الاستثنائي، والذي نتج عنه إلغاء عددٍ من الاجتماعات بواسطة الدولتين في اللحظات الأخيرة. وأشار الوزراء أيضاً إلى أن اجتماع نيروبي كان يمكن أن يكون فرصةً للمُضيّ قُدماً للتعاون في حوض النيل. وقد طلب الوزراء المجتمعون من رئيسة مجلس وزراء دول حوض النيل في ذاك الوقت (السيدة شاريتي إنجيلو وزيرة الري والمياه الكينية) نقل حالة الإحباط والقلق إلى كلٍ من مصر والسودان.

4

من الواضح أن اجتماع نيروبي قد ابتدر فصلاً جديداً في علاقات دول حوض النيل، وأن السِمة الرئيسية لهذا الفصل هو التمحور الحاد بين دول المنبع من جهة، والسودان ومصر من الجهة الأخرى. ولابد من إضافة أن شعارات التعاون التي كانت دول حوض النيل ترفعها في الماضي، والتي طغت على الاجتماع التاسع عشر لوزراء دول حوض النيل الذي عُقِد في نيروبي في يوليو عام 2011، قد حلّت محلها سُحبٌ داكنةٌ من الخلافات والتهديدات والمنازعات.

صحيحٌ أن دول المنبع لم تواصل مشوارها وتصدّق على اتفاقية عنتبي بعد، وقد كان ذلك بسبب تدخّل المانحين الذين طلبوا من هذه الدول إعطاءها بعض الوقت لمحاولة حلحلة الخلافات العالقة. لكنّ الحقيقة الماثلة التي لا جدل حولها أن اجتماع نبروبي أصبح نقطةً فاصلةً في علاقات التمحور بين دول حوض النيل، وأن هذا الاجتماع قد أسّس لتكتلٍ جديد بين دول المنبع في مواجهة تكتل مصر والسودان.

بالطبع يثير هذا الوضع السؤال عما حدث لمبادرة د. المفتي التي قال أنه قد عرضها على اجتماع شرم الشيخ قبل قرابة العامين من اجتماع نيروبي؟ لا بد أنها واجهت مصير عشرات المبادرات الوهمية التي ظلت تعشعش في ذهن د. المفتي.

5

سوّد د.المفتي صفحات مقاله السابق بالجولات السياحية التي طاف بها حول العالم وظنّ أنها مؤتمرات علمية وحلقات نقاش قانونية، وأخبر العالم كله أننا لم نحضر تلك الجولات السياحية. كما أنه ظلّ يكرر أنه ذهب إلى البنك الدولي لحضور اجتماعاتٍ عن حوض النيل، وأن د. سلمان لم يكن متواجداً بتلك الاجتماعات.

لقد كانت مسؤولياتي في البنك الدولي كمستشار لقوانين المياه أكبر وأهم من حضور اجتماعات الوفود التي تأتي لتطلب العون المالي من البنك الدولي. ويبدو أن د. المفتي لا يدري أنه تجيئ إلى البنك الدولي العشرات من هذه الوفود كل يوم بحثاً عن التمويل، ويحضر الاجتماعات مع هذه الوفود موظفو القروض والمنح، وليس الخبراء وكبار المستشارين.

لقد كنت أثناء الأسبوع الذي زار فيه د. المفتي البنك الدولي أعمل أكثر من 15 ساعة في اليوم لنزع فتيل الخلاف الحاد حول مشروع سدّ باغليهار على نهر الاندوس بين الهند والباكستان. وقد نجحت في ذلك وأحيل الخلاف بعد موافقة الدولتين وتحت إشرافي إلى التحكيم بواسطة خبيرٍ مستقل.

6

لقد تحدانا د. المفتي وطلب منا مناظرته حول مبادرة حوض النيل. وقد قبلنا التحدي وناظرناه في برنامج الأستاذ الطاهر حسن التوم في 8 أكتوبر الماضي. وقد ظلّ هو والوزير السابق المهندس كمال علي يحاولان التقليل من إنجازاتنا الأكاديمية والمهنية، وتمّ وصفنا بأننا من حديثي العهد بالقانون الدولي!!. ها نحن نرد التحدي ونضع الربط لسيرتنا الذاتية في هذا المقال:

http://www.internationalwaterlaw.org/experts/Salman.pdf

ونطالب د. المفتي أن يضع الربط لسيرته الذاتية في مقاله القادم حتى يتمكن القراء من معرفة الإنجازات الأكاديمية والمهنية لكلٍ منا، وحتى يقرروا بأنفسهم من هم الخبراء الحقيقيون ومن هم الوهميون والمتوهمون وحديثو العهد بالقانون الدولي. وقتها سوف نغلق هذا الباب ونريح القارئ من الادعاءات والبطولات الأكاديمية الزائفة.

فهل تراه فاعل؟ إنني آمل في الحالتين أن يمنحه الله (هو والمهندس كمال علي) الصبر والشجاعة للاطلاع على كل فقرات سيرتي الذاتية المرفقة.

7

كرّر د. المفتي مراراً أن المادة الثالثة من اتفاقية الأمم المتحدة تنصّ على احترام الاتفاقات السابقة، ولكنه نسي أن هناك مسائل أخرى هامة يجب مراجعتها قبل إصدار مثل هذا الرأي. وبما أن هذا الموضوع في غاية الخطورة والأهمية على حقوق السودان الحالية وحقوق الأجيال القادمة ولا يمكن التعامل معه بهذه البساطة والسذاجة فسنفرد له مقالاً منفصلاً.

8

لقد ظللتُ اقترح منذ يناير الماضي عقد ورشة عملٍ يُدْعى لها الخبراء السودانيون في مياه النيل لتناقش بعقلانيةٍ وهدوء السياسات والقرارات المرتبكة التي اتخذها الوفد المفاوض السوداني خلال السنوات العشر الماضية، والآراء القانونية الخاطئة التي بنى عليها الوفد تلك القرارات.

إنني اعتقد أن ورشة العمل هذه هي السبيل الوحيد للخروج بالسودان من النفق الضيق الذي أدخله فيه الوفد المفاوض، وفرصة السودان الأخيرة لتجنّب العزلة القادمة والتي تحدّث عنها د.المفتي نفسه.

تُرى لماذا يتجنّب الطرف الآخر الحديث عن هذه الورشة؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق