الثلاثاء، 9 أبريل 2013

المفاهيم: سلاح العصر الفتاك!

لمباركية نوّار

تعتبر الحروب الفكرية أشد شراسة وضراوة من الحروب القتالية. والحقيقة، إن كل حرب يدور رحاها في ميادين الوغى تكون مسبوقة بحرب أفكار تسبقها، وترافقها، وتتعقبها بالتقويم وإصدار الأحكام عن حصيلتها.

ولما كانت المفاهيم المنبثقة عن التعميمات في أي مبحث معرفي، هي حجارة الزاوية التي يتكئ ويشيّد عليها بنيانه، فإن التسلح بها أضحى من بين أهم الوسائل المسخرة في قهر الخصوم والأعداء، وفي إرباكهم وشل قدراتهم، وخاصة في زمن كزمننا الذي يعرف سيلانا معرفيا شبيها بسيلان مياه الشلالات وانتشارا إعلاميا واسعا لا نظير له.
المفهوم هو فكرة عامة ومجردة لا يكون ميلادها مكتملا ومدونا في الصفحة الذهنية عند متلقيها منذ الوهلة الأولى. ولو حصل ذلك، لما احتاج أي إنسان إلى هدر مزيد من الوقت والجهد ملاحقا تمثل واستيعاب أي مفهوم من المفاهيم الواقع في دائرة اهتمامه. ولولا العمومية والتجريد لنفقت (ماتت) ـ والموت لغة لا يكون إلا للإنسان دون غيره ـ كل المفاهيم في مشاتلها الأولى التي ولدت فيها إن عاجلا أو آجلا كما تموت الأجنة حديثة الولادة التي تحمل في مخزونها الوراثي صفات مميتة. أو لأصبحت أسيرة الاستعمالات الضيقة والحسيرة على أحسن تقدير.
في زمن مضى، كان من يشتغل بالمفاهيم صناعة أو ترويجا يستظل بظل الفلسفة الذي ينزع إلى التأمل وإعمال الفكر لإسعاد البشرية. ومنذ عقود قريبة، أصبحت المفاهيم من إنتاج مخابر متخصصة يديرها خبراء مؤهلون في شتى المجالات، ويحسنون حتى تعليبها ورزمها وإخراجها للاستهلاك في أبهى صورة بإتباع أساليب الإغراء والإثارة.
كثيرا ما تطعم بعض المفاهيم بموروث خلفية عقيدية ضامرة وخفية لتجييش طرف ضد طرف بعد رسم تخوم التمايز والتفاضل بينهما. ويكفي أن نستقصي عن بذرة مفهوم: 'محور الشر' ـ والمفاهيم تكتب دوما نكرة من دون 'أل' التعريف لجعلها مستغرقة في تجردها ـ الذي ابتكرته أمريكا في عهد الرئيس بوش الابن لنعرف منابعه الأولى التي سطع منها. أليس موضوع الشر موضوعا دينيا محضا إن على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي؟. ويستشف من هذا المفهوم: 'محور الشر' ردا ندّيا ـ من الندية ـ مواجها لمفهوم سبقه في الميلاد هو مفهوم: 'الشيطان الأكبر'. وصراحة إنني أقف متوجسا من كثير من المفاهيم التي تحملها إلينا الريح العاتية التي تهب علينا من الغرب، مثل مفهومي: 'عولمة' و'مجتمع المعرفة'.
إن الآخر الذي يخالفنا وجهات النظر، لا يريدنا أن نواكب تطور المفاهيم التي نتداولها اجترارا، فمفهوم: 'مجتمع مدني' الذي ينتمي إلى نفس الشبكة المفاهيمية التي تشمل مفهوم: 'عقد اجتماعي' لواضعه جان جاك روسو ما زلنا نسخره رغم ما فيه من إيحاءات طبقية وتصنيفية في تشكيل بنية المجتمعات. ولم يراد له الاختفاء باختفاء مفهوم: 'تربية مدنية' الذي خلفه مفهوم: 'تربية المواطنة'؟؟.
يبدو لي، أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية المثقلة بهمومها اليومية التي أتعبتها لم تنظر إلى قضية المفاهيم التي أضحت من بين الأسلحة الفتاكة نظرة جدية من حيث خوض غمارها أو ابتكار وسائل لصدها تكون شبيهة بمضادات الأجسام ـ وقد عربت خطأ بالأجسام المضادة ـ التي تحصنها من الإصابة بلوثاتها الفكرية. ومن القبح الذي يعبر عن تخلفنا أن نفني عقودا من الزمن في ابتكار مفاهيم مائعة وخسيسة نستعملها في التنابز في فسوق والتراشق في عداء كلما دارت في سمائنا سحائب الاختلاف والشنآن. وإن حالا بهذه الصورة المزرية لا يشي بالتفوق في حرب المفاهيم.
لكل مفهوم محددات ومواصفات ترصف في تعريفه لتعطيه كيانه المميز، وسمته المحدد. ويزداد المفهوم وضوحا ورسوخا لما يرفق بلائحة من الأمثلة التي كان أهلنا القدامى يدعونها: 'الماصدق'، أي الحالات التي يصدق عليها المفهوم. ولكن الغرب المتقدم في هذا المجال أبقى مفهوم: 'إرهاب' ، سابحا في ضبابيته الدعائية، و متماهيا في استغلاقه الإدراكي حتى يكون مطية التأويل المتبدل حسب الطلب خدمة لمصالحه، و لطموحاته الاستنزافية الشرهة التي يحاول إخفاءها. فلما يتحدث العرب والمسلمون عن إرهاب بني صهيون دولة وشعبا ينكر الغرب ذلك، باذلا وسعه لتحويل الحقائق الساطعة إلى تهم ملفقة وأباطيل. والغريب أن المتضررين من التوظيف الأعرج والأعوج لمفهوم: 'إرهاب' لم يمارسوا الضغوط باستعمال الأدوات المتوفرة بين أيديهم لحمل كل الدول، وخاصة الغربية منها، على بناء تعريف له يتسم بالإجرائية الموزونة التي تجعل منه مرجعا للاحتكام والقياس والتقدير.
قد يكون ما ذكرت في السطور القريبة مقرونا بتباين طرائق فهم المفاهيم المنتمية إلى العلوم الإنسانية. فهي، وعلى خلاف مفاهيم العلوم التجريبية، تأتي متدثرة بدثار البيئة ووسط العيش والعادات والتقاليد والعرف ونمط التربية والمذاهب الفكرية... التي خرجت منها وترعرعت في ربوعها. فعند دارسي علم الأحياء لا يحصل الاختلاف حول مفهوم: 'خلية' أومفهوم: 'عصبون'، على سبيل المثال. ولكن من الصعب أن يتفق نفر من الناس، بما في ذلك النخبة، على مفهوم: 'ديمقراطية' ولو توافقيا.
ثمة قضية أخرى متعلقة بالمفاهيم لا يجوز إغفالها، وتتعلق بتهجير المفاهيم من حقل معرفي إلى حقل آخر بغرض إعادة استنباتها وتبيئتها في بيئة جديدة لا تشكل امتدادا حقيقيا لبيئتها الأصلية، أي الاستفادة من نموذج معرفي قائم لتقريب الفهم إلى الأذهان حين طرق موضوع جديد. وتنحدر من صلب هذه القضية، أحيانا، إشكالية الارتطام بالأبعاد العقيدية الموصولة مع صنف من هذه المفاهيم المهجرة، وما يعقب ذلك من تحريف وتشويه وانتحال في مدلولاتها. فمفهوم: 'شهيد' يفقد معناه المقدس إذا وظف خارج دائرة الإسلام؛ لأن مواصفاته التي نقرأها في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة لا يمكن التسليم بها إلا من طرف المؤمنين المتشبعين بتعاليم الإسلام. ويظهر أن مفهوم: 'جهاد' حوّر إلى أسوأ صورة لما زج به من طرف بعضهم لتبرير مناكر مقترفة لخوض مغالبات تحتكم إلى الرؤية الخاصة والضيقة، ولا تمت إلى محجة الإسلام البيضاء بصلة.
اعتقد، أن خور قوانا في تشكيل المفاهيم والترويج لها، أبقانا في دائرة المستهلكين الشرهين للمفاهيم التي يفتن غيرنا المخالف لنا في الجوهر أساسا في صكها وتصميمها رغم عسر الهضم أو الإسهال الذي تسببه لنا في كل المواقف.

كاتب وباحث من الجزائر
القدس العربي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق