السبت، 2 فبراير 2013

وأشاع النور في سود الليالي..!!

«أ»
من مرويات عبدالله زكريا إدريس، أحد عصافير النار في السياسة السودانية، الذي أثقلته أفكاره ومعتقداته وقلّبته على جمر التنظيمات والعواصم والأرصفة والأحزان الكبار، قصة كنوز السلطان علي دينار، وثروات سلطنة الفور في دارفور قبل سقوطها عام 1916م.!
على شُرفة فندق مغمور بالعاصمة الليبية طرابلس، هواء مشبّع برطوبة يجتاح المكان، ولون البحر بزرقته يملأ الأفق أمامنا كوجهٍ متجمِّدٍ في الفراغ، ونوارس الظهيرة تلامس وجه الماء ثم ترفرف وتعلو كأنها بندول لا يمل لساعة خرافية لعالمٍ من أساطير.
مدَّ الرجل بصره نحو البحر، ورنا بعينيه المتعبتين للأفق البعيد.. وقال بصوت خافض

 أشبه بالفحيح: «ثمّة ركام غطى على حقائق التاريخ.. وهذا البحر الذي مخرت عبابه سفن المستعمرين لم يحمل إلينا إلا الرزايا ولم يحمل إليهم إلا العطايا والكنوز»!!!
وكأنه كان يسترجع صوراً قديمة متجمِّدة في الزمن، بدأت تتداعى أمامه كينبوع نور.. أو تواشيح عذاب،  ثم رنا في استغراق صوفي مجيد.. وتنهَّد.. مردداً في أعماقه اللولبية صدى كلمات مرتعشات الجنان، لمحمد الفيتوري:
٭ يا أيُّها المصلوبُ فوق مشانقِ المحتلِ
هل ما زلتَ ترقصُ في الحبالْ؟
وهل الظلالُ على امتداداتِ الطريقِ
هي الظلالْ؟
وهل الخيالُ الأصفرُ الشفقيُّ..
خاتمةَ الخيالْ؟
«ب»
بدأ الرجل يسرد القصة، كأنه يحكي عن نفسه وعن محنته ومحنة جيله، وحكايات تُروى عنه وعن بلده.. وصوت فيروز يشدو حوله:
(خدني خدني على بلادي..)!!
قال عبدالله زكريا:
قــــــبل دخـــــــول الإنجليز مدينة الفاشر بأسبوع.. «بقيادة كلي بيك وهدلستون في 22 ـ 23/6/1916م»..
جمع السلطان علي دينار، اثنين من خاصته وكاتمي أسراره من كبار رجال سلطنة الفور الإسلامية وتشاور معهما في أمر بالغ الدقة والأهمية، بعد تيقُّنه، أن جيش هدلستون، سيدخل الفاشر لا محالة.
وتحرك في جوف الليل البهيم، موكب طويل صامت.. عدد من البغال المثقلة بما تحمل، وثلاثة أحصنة مطهمة، تشق ظلام تلك الليلة البكماء... لا صوت إلا صوت حوافر الخيل والبغال على الرمل حيناً وصوتها على صخور الجبال، عندما كان القمر يختنق في محاقه ، كتائهٍ وحيد في بيادر السماء..!!
«ت»
ألفى السلطان علي دينار نفسه ورفيقاه قاضي إدريس، جد عبدالله زكريا، ووزير ماليته «جمر القايلة» وموكب البغال وحراس أشاوس، يصعدون الجبل الأشم حول الفاشر، والريح الهوجاء المجنونة تعصف حولهم ورائحة الموت والشهيق تجوب المكان.. كجيفة نجم تناثرت في الفضاء.
تجهَّم وجه السلطان وتشقّق بالعرق، ساعة بدأ حراسه ورجلان، يحفرون عميقاً بين صخرتين فوق هضبة على رأس الجبل.. الليل يوغل في المسير والحفرة تزداد اتساعاً، بعدها دفن السلطان ومرافقوه، كل كنوز السلطنة وعملاتها الذهبية والمقتنيات الثمينة من الذهب والفضة والجواهر النادرة، وهدايا الباب العالي في تركيا، وكل ثمين وغالٍ..
وكأنه دفن ميتاً عزيزاً عليه، وقف السلطان عقب ردم الحفرة الضخمة وبعد أن سُوِّيت تماماً، وطفرت من عينيه ومضة غريبة وقال زافراً شاهقاً:
« بعد هذا لن يجد النصارى الغُلُف هذا المال الحلال»!!
والتفت بوجهه المهيب لأحد كبار حراسه، وغيّب الظلام أو الموت، الحراس والعمال والخدم، ولم يبقَ إلا السلطان وقاضي إدريس وجمر القايلة، ورئيس الحراس الذي ابتلعه الليل أيضاً.
«ث»
ويمضي عبدالله زكريا.. يستدعي الزمن من فجواته ومخابئه السحيقة:
«أخرج السلطان، من جراب في حصانه مصحفاً عثمانياً ضخماً، زُخرف غلافه بماء الذهب ولمعت مع أعين الأنجم البعيدة زخرفات فضية عليه، ودعا رفيقيه للقسم معه، أن يكتما هذا السر للأبد وأن يدفن معهم إن استشهدوا غداً في المعركة، أو وافاهما الأجل في آجال أخرى قادمة..
وعادت الأحصنة الثلاثة، وهامت البغال الست عشرة في الليل والبقاع والسهول الواسعة، ودخل الموكب الثلاثي الفاشر ومع خيوط الفجر  صحت المدينة ولا أحد يعلم ما في بطن ليلتها تلك..
وبعد أسبوع كانت الفاشر تتحدث «تُرُك جووا في سيلي».
وكانت المعركة الطاحنة الفاصلة، اُستُشهد خلق كثير، وتراجع السلطان إلى جبل مرة ووادي صالح، ولاحقه الجيش الإنجليزي واُستُشهد هناك ماهراً التراب ومعفّره بدمه الزكي ومتصاعداً بروحه لمدارج السموات العُلى...
أما قاضي إدريس وجمر القايلة فقد كتبت لهما الحياة، حتى أن نساء الفاشر كُنَّ يغنين في حزن مقيم بأغنية ينفطر لها القلب:
« دنيا زايلة شالا سلطان
وخلا جمر القايلة»!!!
«ج»
ومضت السنوات يقول عبدالله زكريا، وجده إدريس يعمّر، كأن الموت يهاب رجل القرآن وقاضي السلطنة الفقيه العابد العالم.. يزاوِره حيناً ويغض الطرف عنه مثل مُدخر لوعدٍ غير مكذوب ...!
وقاضي إدريس في خريف عمره الطويل، صامت لا يكلِّم أحداً ولا يتكلم بالسر المدفون في قلبه،المغروس في أعماقه.. لعهدٍ قطعه للسلطان وقسمٍ له مع الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
ومع دخول عبدالله زكريا، كلية الآداب جامعة الخرطوم، في مطلع السنوات الخمسين «1952» وهو يدرس الجغرافيا، يستدعيه أستاذه البريطاني الجنسية في كلية الآداب.. ويطلب منه بحثاً في التاريخ..!!! معلم الجغرافيا الإنجليزي، يطلب بحثاً عن تاريخ سلطنة الفور وأين ذهبت كنوزها!!؟
والطالب الصغير، يسافر للفاشر ليجمع المعلومات، ولا أحد غير جدِّه يعلم خفايا وأسرار وخبايا التاريخ القريب.. لكن الجد الصامت الصامد الوفي، لم ينطق بكلمة، حاول الحفيد، مجرد معرفة ذرة من تلك المعلومة الباهتة، لكنه لم يظفر بإجابة واحدة.. ولا حتى الجهة التي يقع فيها الجبل..!!
«ح»
وكتب عبدالله زكريا بحثه «التاريخي ـ الجغرافي» لكن الأستاذ الإنجليزي ذمّ شفتيه وعلت وجهه الخيبة لأن ما يريد، لم يكن في البحث..
قارن بين ما كتبه أهم مرافقي الجيش الإنجليزي في حملة وغزو سلطنة الفور «ماك مايكل» الإداري الإنجليزي المشهور الذي كتب أهم التقارير وتاريخ السودان في العهد الإنجليزي، وحسن قنديل ممثل مصر في الحملة تلك..
ومضت السنوات ولا أحد يعلم حتى هذه اللحظة أين ذهبت كنوز السلطان علي دينار، وتتلاطم هذه الكنوز في فجاج المرويات والأساطير مع كنوز الملك سليمان في قصة ألان كواريتر مين الشهيرة..
«خ»
ويقول عبدالله زكريا، وهو يغرس بصره وهمسه في مياه البحر وأمواجه، إن الإنجليز بحثوا في كل ذرة تراب وقلبوا كل حجر في وحول الفاشر، بحثاً عن تلك الكنوز، وفي اعتقاده، أنه قد يكون من الراجح أنهم وصلوا لها وحصلوا عليها.
تحول الصوت إلى فحيح آخر..
صوتي..
هذا.. صوتُ النارِ.. وأنينُ الحطبْ..
صوتي هذا
رنينُ الموت في موج الغضبْ..
٭ وصمت عبدالله زكريا مثل جده إدريس..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق