السبت، 2 فبراير 2013

قيامة السودان

سيف الدولة حمدنالله

جاء الوقت الذي نحكي فيه على المكشوف، فلم يعد هناك ما يمكن أن نتستر عليه أو ندفن منه رؤسنا في الرمال، فالحقيقة التي يكاد المرء أن يلمسها بيديه تقول بأنه إذا لم تقم الأحزاب والقوى السياسية التي رفضت التوقيع على ميثاق الفجر الجديد أو تنصلت منه بعد التوقيع عليه بمراجعة موقفها، فإن النتيجة الحتمية لذلك هي إنفصال جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور جملة واحدة، سواء سقطت الإنقاذ أو لم تسقط، وسواء كان سقوطها بثورة شعبية أو بإنقلاب عسكري أو بذبحة صدرية.
هذه حقيقة لا ينكرها الاٌ حالم أو ذي غفلة، فالمرارة التي يتجرعها أهالي تلك المناطق من هذا النظام، بات يصاحبها - بسبب مثل هذه المواقف - تنامي الشعور لديهم بأن الشعب
في الشمال – بالمعنى الإثني وليس الجغرافي – ليس لديه إهتمام بما يحيق بهم من دمار وخراب، فمن العسير على مواطن من جنوب كردفان أو دارفور أن يفهم كيف يعيش أخيه في الخرطوم مثل هذه الحالة من البهجة والحبور بسبب إفتتاح شارع ذي ثلاث مسارات على النيل وكأن الإنقاذ لا يكفيها "مسار" واحد، أو يفهم خروج الشعب في مظاهرات بالخرطوم بسبب شطب لاعب كرة من كشوفات نادي رياضي، في الوقت الذي يصمت فيه عن قصفه بالمدفعية والطائرات كل يوم، وأن يكون فيه غاية ما يصبو إليه حصوله على قطعة رغيف حاف يسد بها نصف رمق.

فإذا كانت الإنقاذ قد فعلت بالوطن ما فعلت كل هذه السنوات، فإن الأحزاب التي رفضت التوقيع على هذه الوثيقة سوف تكون مسئولة عن محو الوطن من الوجود، وليست المصيبة في جهل الإنقاذ بحقيقة هذا الموقف برفضها التفاوض مع الجبهة الثورية، فاللص عادة لا يأبه بالضرر الذي يتسبب فيه للشخص المسروق، ولكن المصيبة تكمن في موقف بقية القوى السياسية التي تقول أنها تعارض النظام وهي تجلس – في إسترخاء – بعد أن نفضت يدها وتبرأت من الميثاق دون أن تأبه بالمصير الذي ينتظر الوطن من وراء هذا الموقف بحسب ما يخلفه ذلك في نفوس أهالي تلك المناطق، وهي في ذلك تشبه حال راكب الطائرة الذي يطلب من المضيفة فنجان قهوة بعد أن سمع قائدها يعلن بأنها على وشك السقوط.

من الغباء القول بأن الذين يقاتلون الحكومة في مناطق الحرب، يفعلون ذلك من أنفسهم لأنفسهم دون سند شعبي من الأهالي في تلك المناطق، ومثل هذا القول يردده كثير من بلهاء النظام، ومن جنسه ما قالت به قبل بضعة أيام سامية محمد أحمد نائب رئيس المجلس الوطني وقامت بنقله صحيفة "الراكوبة"، التي قالت : " مالك عقار مذعور وهائم على وجهه في الخلاء لأنه ملفوظ وغير مرغوب فيه من أهالي النيل الأزرق".

هذا عبط وضعف خيال، فكما سبق لنا القول، فإن ظفر مالك عقار عند أهله في النيل الأزرق يساوي رقبة مائة من الهادي بشرى الذي تم تنصيبه والياً عليهم، وسوف يأتي اليوم الذي تدرك فيه الإنقاذ – بل والشعب بأسره – هذه الحقيقة، فليس من المقبول عقلاً أن يهتف المظلوم لجلاده، ويقف ضد الذي يقاتل من أجله، فالنتيجة المنطقية أن تسعى أي جماعة يقع عليها ظلم بأن تعتق نفسها من مصدره بأي ثمن، ففي مدينة بورسعيد المصرية قام الأهالي بوضع لوحات على سياراتهم كتبوا عليها "جمهورية بورسعيد" لمجرد تسبب حكومة مرسي في قتل عدد من أبناء المحافظة المتظاهرين ضد أحكام قضائية، (تقرير مصور بثته قناة الجزيرة في نشرة الأخبار).

ولا يطعن في صحة هذه الحقيقة وقوف عدد من أبناء تلك المناطق مثل التيجاني السيسي وكبر ودوسة وتابيدا بطرس والحاج آدم .. الخ إلى جانب الحكومة ضد أهلهم، فمثل هؤلاء المخلوقات المشوهة كان للإنقاذ أكثر منها من أبناء الجنوب الذين كان بعضهم قد (نجر) لنفسه غرة صلاة، وبايعوا البشير وعلي عثمان ونافع، وفي لحظة الحقيقة أداروا وقفوا مع وهم اليوم وزراء في حكومة الجنوب.

في ظل هذا الواقع، كان حرياً بالأحزاب السياسية أن تفكر ألف مرة قبل أن تصدر البيان تلو البيان برفض ميثاق الفجر الجديد، وليس أسوأ من هذا الموقف، غير السبب الذي قدمته تلك الأحزاب كتبرير لعدم توقيع الإتفاق، وهو الزعم بوجود بند في الميثاق ينص على فصل الدين عن الدولة، ولعمري هذه حيلة بأكثر من كونها فرية، كشف عن حقيقتها شخصية إسلامية في وزن الدكتور يوسف الكودة الذي قام بالتوقيع على الميثاق بعد أكثر من إسبوعين من رفض الأحزاب الأخرى التوقيع عليه، بتوضيحه لحقيقة النص الذي يقول برفض إستخدام الدين في تحقيق أهداف سياسية، وليس فصل الدين عن الدولة.

ثم، أين الدين الذي تنفصل عنه الدولة أو لا تنفصل !! بل أين الدولة التي ينفصل عنها الدين !! فالواقع يقول بأنه لا توجد دولة في هذا الكون – بما في ذلك ديار الكفر - فصلت الدين عن الدولة بمثلما فعلت دولة الإنقاذ، فهي لم تترك شيئاً نهى عنه الدين لم تفعله، ولم تفعل شيئاً قال به الدين، فالدولة التي تقيم الدين، هي التي تنشر الفضائل التي جاء بها الدين، كإقامة العدل ودفع الظلم،والمساواة بين الناس، وإشاعة الحرية، وتحلي أهل الحكم بصفات الإسلام من صدق وطهارة في اليد وعفة في اللسان، وعدم التعدي على مال الغير، وتوفير حاجات الناس الضرورية ...الخ.

ودولة الإنقاذ آخر من تمتلك لسان لتدعي بأن هناك صفة واحدة من ذلك تنطبق عليها، فقد قتلت مئات آلاف الأنفس البشرية بغير حق، ومثلهم من قطعت أرزاقهم، وليس هناك ظلم طال العباد مثل الذي ذاقوه تحت هذا الحكم من إعتقال وتعذيب بوحشية، وتعدي على المال العام، الذي تقاسمه من ولٌوا أنفسهم علينا فيما بينهم، ولم تنتشر الفاحشة والمخدرات تحت حكم في السابق بمثلما حدث في العهد الذي يقول أنه يحكم وفق أصول الدين (نشرت صحيفة آخر لحظة بعدد أمس تصريحاً للشيخ حسن عثمان رزق القيادي بالحركة الإسلامية يحذر فيه من تزايد ظاهرة زواج المثليين جنسياً وسط المجتمع السوداني).

ماذا تبقى بعد ذلك ليربط بين الدين والدولة التي تخشى الأحزاب الفصل بينهما، وهي لا تستطيع مجرد الزعم بتطبيق الحدود التي عجزت عن تنفيذها في أرض الواقع وظلت مجرد نصوص على الكتب فيما عدا جريمة شرب الخمر وهي الوحيدة من بينها – أي جرائم الحدود – التي يثور جدل فقهي كبير على كونها كذلك، فالواقع أنه لم يبق لم يبق لدولة ربط الدين بالدولة سوى ما تقول به من أسلمة البنوك، وهذه الأخرى أيضاً فرية يكذبها الواقع، وليس هذا بالمجال المناسب للحديث عنها بالتفصيل، ويكفي القول من واقع البيانات التي لا تكذب بأن البنوك الإسلامية – في السودان – تتقاضى فائدة – نعم فائدة تسمى عندهم مرابحة – تبلغ حوالي 20% سنوياً من أصل الدين، تنقص أو تزيد، في الوقت تبلغ فيه نسبة الفائدة (اليوم) في البنوك التي يقال لها ربوية في أمريكا وأوروبا والبلدان العربية نسبة لا تتجاوز 4%.

لقد كان من المتعين على الأحزاب السياسية أن تفكر في مغبة رفضها التوقيع على ميثاق الفجر الجديد، الذي يهدد وجود الدولة نفسها التي يخشى على عدم فصلها عن الدين، وذلك بعدم الرضوخ للإرهاب الفكري الذي تمارسه عليهم الدولة بنشر هذا الإفك والتضليل الذي إذا جاز أن ينطلي على بسطاء الناس وعوامهم، فلا يليق أن ينسحب عليهم، فالشعب السوداني لم يدخل الإسلام على يد الإنقاذ ولن يخرج منه بسقوطها لكي يصدق مثل هذا الإستعباط.

تبقى القول بأنه لا تزال هناك فرصة لتصحيح هذا الخطأ بمراجعة الأحزاب لموقفها، وأن تضع يدها مع الذين يحملون لواء القضية نيابة عن أهل تلك الأقاليم، قبل أن يأتي اليوم الذي يستعصي قبول أولئك الأهالي البقاء في حضن وطن يجمعهم مع الشمال، حتى لو رضي بذلك مالك عقار والحلو وياسر عرمان، وذلك اليوم – وهو ليس ببعيد - هو الذي تقوم فيه قيامة السودان.

سيف الدولة حمدناالله
saifuldawlah@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق