السبت، 14 يونيو 2014

المعلوم من العافية بالضرورة


قصة قصيرة  جديدة لإبراهيم اسحاق

دع الأيام تغدر كل حين  ***فما يغني عن الموت الدواء 

الشافعي
الثلاثاء 28 رجب 1435 ه الموافق 27 مايو 2014م – العدد ( 5572) ألوان
وإذا بعم شاكر مثل عموم الكباشيين ، يطلب مني مشورة قانونية .. تصادفت وإياه في تندلتي السلاطين ، ببيت عم بابكر ود بحر .. عم شاكر وصل لتوه من الوخايم، وأنا أنزل قبل ساعتين من طائرة الخرطوم .. كان عصرا متأخرا وولوفا، وقد تغدينا ، وعبد الحميد ولد بابكر ، البكر يصب لنا الشاهي ، كأن شيئا خفيا يلغز عم شاكر فيلتفت إلي ثم إليهم ليطلب منهم أن يسكتوا ..عم سعيد وعم الأمين الزين وعم عبدالماجد بأجمعهم الآن يستمعون: يالمنصور ولد جليل  الزول ما يلاقي محامي الا ويكون في راسو عقدة قانونية محتاجة لحل .. فهمتني يا ولدي ؟
قلت لنفسي فلأمازحه:
فهمتك ياعم شاكر .. لكن لو ما دفعت حق المشورة القانونية قدام الشهود ديل.. برضو تبقى معلقة بيني وبينك والأيام!
ضحكوا بحبور ، وحبورهم يفرحني ، ويشد من أزري ..
ها في ناس بقولوا البطلب من الجماعة يكتلوهم ما عليهم ديتو ولا دمو .. وناس آخرين بقولوا الطبيب الماعارف  لازم يغرم دية المكتول ويحاسبو .. توا ياتو منهم الصح وياتو منهم الخطأ؟ .. دايرين نعرف .. اتجهوا نحوي بكتلتهم ، وكأن بعضهم سبقني في الأمر فورا إن سمحوا له ، لولا أن المسألة موجهة  أساسا للمحامي . قلت لعم شاكر:
دي نظريات يا عم شاكر .. القانون هو قواعد بتتنزل على الوقائع وتصير قضايا.. بدون الوقائع مابتكون عندنا لا مشورة ولا قضايا..!
ويبدو أن أعمامي جميعا يذهلون لغفلتهم عن مثل هذه التعقيدات .. يقول عم شاكر:
وضح لي يالمنصور يا ولدي ..
-         طيب .. الواقعة الجابت في بالك الشغلانة بكلام الناس ديل .. وبي كلام الآخرين ديلاك.. هي شنو بالضبط ؟
-         تركني تماما .. يتوجه بكامل وجهه إلى أعمامي المستمعين :
-         ها دا الكلام يابناجيس كباشي .. أنتو أبان دقونا فشنق .. يفتح الله عليك يالمنصور يا ولدي..! في أم هشابة  .. جلس تمانية رجال فوات .. العناقر والأ.. كتاف كأنهن عناقر وأكتاف الثيران ، الضراعات كأنهن النبابيت الصعيدية في أفلام المليجي يالأمين يا خوي لو تتذكر أيام السينما التجولة .. ونهرات المغالطة يسمعها القادم من طرف الحلة .
في الوسط أربع قلالتشوشو فيها العسلية والكوشيب وثالثتهما ذلك الآخر الذي يسمونه السكوسكو .. ووراء الضرورة جركانة جنا النار ، ولعله جن النار .. عرفته يا أستاذ ؟ عفارم عليك ..! نعم .. العرقي المقطر ..
من الضحى إلى ما بعد الزوال كانوا يصطخبون ويخبطون على أكتاف بعضهم البعض.. إذا ما جاءت المزحة من من الطرافة بمكان وقع بعضهم على ظهره فوق المفرش البلاستيك المجلوب من مصر يرفص برجليه ويرفص .. الذين حكوا لي الخبر يا جماعة لم يكشفوا لي إلا عن
قبضة أسماء منهم .. وحتى هذه أظنها مجرد ألقاب .. ذلك الذي يدعونه (بازل ) تجشأ وتجشأ ثم تقيأ في طرف الراكوبة .. وانهالت عليه التقريعات :
 يا كحيان يا رميمة ..! بتقعد كمان زي الرجال وتشرب مع صبيان البنات ؟!  وبعد كاسين تطرش وتعفن لينا الواطا
 ياخوانا ما كدا ..عيب ! اليومين ديل الهوان دا مشى على البنات السعرانات  ديلاك حبن منو دمو تب ..!
كل ذلك وسواه يقال و (بازل) مشغول بجمع أطرافه واللحاق بأنفاسه  متى تروق في زوره .. ابن عمه المدعو ( كاشير) قال للذي يسمونه الحكيم .. إنت يالحكيم إبرك حقات الصحة والعافية ديلاك باقي منهم شئ ؟
والله كن واحد وكن اتنين ما بتأكد ليك ..
جيبم جيبم حسا.
الذين أخبروني يقولون أن (أبلس) إعترض بشدة
في قولكم حسادا محل طعن بالإبر؟ يا تطاعنو لينا بالسكاكين عديل عديل .. يا خلونا لمن كل واحد يدخل محل نسوانو وعيالو وينادي الحكيم .
لكن المغالطات لم تثن ( كاشير ) وإصراره على الحكيم كان منبتا ...
ياخي حسا أمو تجي تقول لينا إلا تودوهو للحكيم الصحي صحي في الدكة يفحص ليهو.. وأنحنا ما فاضين .. يالحكيم ؟ حلفتك بي نسوانك الإتنين .. لما ما تقدر تمشي بيتكم وتجي نادي وليدك .. أنا خليت العيال تحت السرحة بلعبو دالة ..!
خرج الحكيم حتى يسمعونه عند باب الراكوبة ، واستلمها منه أبوه الحكيم طرفا .. الذين يخبرونني يزعمون أن (الحكيم ) لا يدري أين طارت الورقة الديباجة المطبوعة من الحقنة الوحيدة الباقية في الكيس تناولو جميعهم تلك الحقنة الملساء فدارت عليهم فردا فردا .. أهي بنسلين ؟ أم تتراسيكلين ؟! أم  أموسكين ؟! أم  ..؟!  لم يستطع حتى (الحكيم ) أن يبت في الأمر ..( أبلس ) يرى أن يغضوا الطرف عن هذه المهاوس كلها وينادوا على عبدالحكم  ليعيد الكيس إلى بيت الحكيم ) والذي لم يعد فيه ما يكفي من الدم لكي يشرب مع الرجال فليذهب إلى بيتهم ويشرب ويتقيأ على مزاجه ..( كاشير) يهب  بعد عناء عظيم ينزع عنه ثلاثة منهم سكينة ذراعه ويجلسونه ..
عيال عوين يقولوا فينا شنو كمان أنحنا أولاد الرجال؟! الثلاثة إياهم لا يزالون يسكتونهما ويصرخون فيهما :
الكلام دا بيانو هناك في محل الصفقة .. بيانو بالسوط .. ياخي ما تخربوا علينا شرابنا .. السجم ياخدكم ويريحنا منكم ..! و(كاشير) يعود لمسألة الحقنة.. قال لابن عمه ( بازل) :
يطعنوك الحقنة والا ما يطعنوك ؟!
يلتفت (بازل) حوله يقرأ في وجوههم لمحات الموافقة أو المخالفة .. ثم يتلبث .. يتلبث .. و(كاشير) ينهر فيه ثانية :
هوي سجمان دا ..؟! يطعنوك الحقنة والا ما يطعنوك؟
ما يطعنوني
آآ؟! ما يطعنوني ..
ياوسخ .. ياجبان .. يا هوان ..!
ويهفهف صوت الريح وحده عبر فتحات قصب الراكوبة ، أو أن ( الحكيم ) يجمع بضاعته في كيسه  بكن (كاشير) يجبد أكمام جبته فيحسر الثوب عن زنده ويشمخ العصب الناشز بساعده ..
أنا بوريك الرجالة دا كيف يا وسخ ! عليا بالطلاق تطعنوني الحقنة دي!
يازول ؟! يا زول ؟! حسا منو القال ليك دمك كدا ولا كدا؟!
علي بالطلاق تطعنوني وبس ؟!
ويا أستاذ ؟ ذلك( الحكيم ) لم يكن _ فيما يظهر من الخبر يملك الخيار .. سحب الماء في الأمبوبة وصبه في الحقنة ثم رجه رجا منيعا .. واستلم الزند النافر بالعروق الهائج .. غز الإبرة هنا وهناك .. ودلق المحلول في المجاري النابضة .. دلك على خرم الإبرة مرارا ، وتنحى.. بعدها جمع أشياءه في الكيس.. والصحاب أداروا التكلايات من العسلية والكوشيب.
التكلايات ؟!  التكلايات يا أستاذ : هي كؤوس القرع الصغيرة .. نعم ..
ثم كح ( كاشير) .. وكح .. وكح .. وتغضنت جبهته ..قال لهم :
يسمعن بنات العم ..؟! أغرف لي كاس من جنا النار داك نلز بيهو العكرة  دي .
أعطوه كأس من جنا النار فاكترعها .. ثم توسد ملفحته ورقد على جنبه .. لكن تلك الكحة لم تفارقه .. وحينما وضع ( بازل) يده  على (كاشير) انخلع واقفا وأصبح يرتعش تصكصك أسنانه ..
جسمو نار .. جسمو منفوخ! ومالو بنفض ! وكالمعتاد في هذه الأحوال يا أستاذ فإن الندامى يقولون في أغوار نفوسهم : الخلاص وين ؟!
صاحب الراكوبة جمع القلال وجركانة جنا النار بسرعة فدخل بها إلى بيت عمته ولم يعد .. قد وقد أخبروني أن الحكيم ) أسرع بأدواته إلى بيتهم! وقد حكى الجيران أنهم لم يعلموا لماذا يرونه متعجلا يركب حماره الريفاوي .. متوركا وسط متاع غير قليل ، ويغيب وراء القوز .. فمن ذلك اليوم لم يره نفر من أهل البلد ..
قبل المغرب دفن أهل أم هشابه ( كاشير) .. ثم رنت الموبايلات ورنت حتى بلغ الخبر إلى أنجمينا والقاهرة ، حيث أولا عمه وعماته..
رفعت رأسي عن تركيزي على عم شاكر.. فلما تبينت أعمامي لم أعد ألحظ بينهم من يظل ملهوفا للإفتاء حول المسألة .. ثم رأيتهم وعم شاكر مجتمعين يطاردونني بنظرات شغوفة .. قلت لعم شاكر : يعني الحكيم ما لقوه ؟
تب !
طيب رفعوا قضية عليهو ؟ والله ياولدي ما عرفتا ..
 فكرت لوهلة ..أن الأفضل لي تحويل الأمر إلى استبيان قانوني.. قلت لعم الأمين الزين .
رايك شنو يا عم الأمين ؟
يا ولد إنتو ناس القانون ما أناز
 طيب هنا في نفس أزهقت والا لا ؟
آي.. أزهقت.
طيب .. كن زول طلب من ولدو والا من والدو قال ليهو أكتلني .. تفتكر في بلاد كفار هناك برضو .. يرضو بيهو؟
ما أظنو في عاقل يرضى بيهو .. طيب دا أول مرة الحكيم الزي دا يطعن ليهم زول بي إبره ما ليهو ديباجة ؟
في الخلا هناك عندنا ؟! دا شئ عادي !    
يعني كتلو خطأ والا عمد ؟
في البتشاف لي خطأ !
سكت هونا حتى عادوا يحملقون في وجهي .. قلت لعم شاكر:
 لما يلقوا الحكيم دا يا عم شاكر .. يسلموه للقانون .. بعدين بنادونا أنحنا ديل .. واحد مننا يدافع بكلام جماعتك البقولوا : لا دية ولا دم ! لكن الخطأ المهني موجود .. ووكيل النيابه يدفع بي كلام جماعتك الآخرين البقولوا أقلاهو يغرم دية المكتول ، ويسجن ويحظروه .. والقاضي آخرتو بقول قولو .. بعد ما يسمع كلام الشهود والإقرارات .. يكفي الله المؤمنين الشر ودرب الشر ، وزول الشر .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق